فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة، وقيل: أنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم الخ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال.
ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا، فضمير، عليهم وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول، وعلى الأول إلى الثاني، ومن الناس من فسر الذين لم يلحقوا بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلًا عظيمًا بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية، والمعنى لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض، أو لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحًا بالآخرة، أو لا خوف عليهم في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلًا عن أن يخاف ويحذر ولا هم يحزنون على المفارقة، وقيل: إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها، وهو وجه وجيه.
والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعًا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام؛ وقد تقدمت الإشارة إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ألا خوف عليهم} بدل اشتمال، و(لا) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها، ولم يُبن اسم (لا) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع: «زوجي كلَيْلِ نِهَامَة، لا حرٌّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سَآمَهْ» برفع الأسماء النكرات الثلاثة.
وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا.
وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله، وقد يكون خاصًّا الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها.
وقد يكون عامًّا لِجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة، على أنّ الإمام الرازي حَصَر اللذّة الحقيقية في المعارف.
وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء، ولو كانت سيئة.
وفي الآية بشارة لأصحاب أُحُد بأنهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم. اهـ.

.قال الفخر:

الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

وفي ماذا يرتفع الخوف والحزن عنهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم.
والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحًا بالآخرة. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم، وإنما أعاد لفظ {يَسْتَبْشِرُونَ} لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة.
فإن قيل: أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار؟
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار.
والثاني: لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَسْتَبْشِرُونَ} مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى: {بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين}.
فحينئذ يكون بيانًا وتفسيرًا لقوله سبحانه: {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبًا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدًا، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا: {بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ} من غير ضم ما بعده إليه، وقيل: الاستبشار الأول: بدفع المضار ولذا قدم، والثاني: بوجود المسار أو الأول: لإخوانهم، والثاني: لهم أنفسهم، ومن الناس من أعرب يستبشرون بدلًا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه، ومن الله متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وجمع الفضل والنعمة مع أنهما كثيرًا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك، ونظيره قوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وعطف {وَأَنْ} على فضل أو على نعمة وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والنعمة: هي ما يكون به صلاح، والفضل: الزيادة في النعمة. اهـ.

.قال الفخر:

الآية تدل على أن استبشارهم بسعادة إخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الإخوان، وهذا، تنبيه من الله تعالى على أن فرح الإنسان بصلاح أحوال إخوانه ومتعلقيه، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}.
أي بجنة من الله.
ويقال: بمغفرة من الله.
{وَفَضْلٍ} هذا لزيادة البيان.
والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنِعَم الدنيا.
وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد؛ روى التِّرمذيّ عن المِقْدام بن مَعْدِيكرِب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشَّهيد عند الله ستُّ خِصال» كذا في الترمذيّ وابن ماجه: «سِتّ»، وهي في العدد سبع: «يغفر له في أوّل دُفعة ويرى مَقعده من الجنة ويُجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاجُ الوَقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العِين ويُشَفَّع في سبعين من أقاربه». قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وهذا تفسير للنّعمة والفضل.
والآثار في هذا المعنى كثيرة.
ورُوي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة.
ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يُكرم بها أحدًا من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحَهم مَلَكُ الموت وهو الذي سيقبض رُوحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يُسلّط على أرواحهم مَلَكُ الموت، والثاني أن جميع الأنبياء قد غُسِّلوا بعد الموت وأنا أُغَسَّل بعد الموت والشهداء لا يُغَسَّلُون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا، والثالث أن جميع الأنبياء قد كُفِّنوا وأنا أُكَفَّن والشهداء لا يُكَفَّنون بل يُدفنون في ثيابهم، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سُمُّوا أمواتا وإذا مِت يقال قد مات والشهداء لا يُسَمَّون مَوْتَى، والخامس أن الأنبياء تُعطَى لهم الشفاعةُ يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون». اهـ.

.قال الفخر:

المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من إيصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصًا بهم، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب، فإن الله سبحانه يوصل إليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة. اهـ.
وقال الفخر:
الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بإيمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبدًا مخلدًا لما وصل إليه أجر إيمانه، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم:
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة وهذه حالة مختصة بغير الشهداء.
وفي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون} فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
فصل: قلت: وهنا اعتراضات خمسة:
الأول: إن قيل: ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام؟ قلنا: هو عموم يخصصه ما ذكرناه، فهو محمول على غير الشهداء.
الثاني: فإن قيل: فقد روى مالك عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه». قلنا: قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل. يقال علقت تعلق علوقًا. ويروى يعلق بفتح اللام وهو الأكثر ومعناه: تسرح وهذه حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم. وقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} ولا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة. حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وغير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضرًا ويفسح له فيه. وقوله:
نسمة المؤمن. أي روح المؤمن الشهيد. يدل عليه قوله في نفس الحديث حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يبعثه.
الثالث: فإن قيل: فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء والجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام: إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء وفي رواية أبواب الجنة؟ قلنا: لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة، بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور، وتارة في السماء لا في الجنة. وقد قيل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام، ولذلك تستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة وبكرة السبت فيما ذكر العلماء. والله أعلم.
قال ابن العربي: وبحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم، وهو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه، وحديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم. وكذلك حديث اليهود.
قلت: ويحتمل على ما ذكرناه والله أعلم: أن يكون قوله عليه السلام: ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا وروحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام حتى لا تتناقض الأخبار. والله أعلم.
الرابع: فإن قيل فقد قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه.
وهذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة، من حين القتل ولا تكون أرواحهم في جوف طير، ولا تكون في قبورهم فأين تكون؟ قلنا: قد خرج ابن وهب بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًا فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق الآدميين إذ الدين ليس مختصًا بالمال على ما يأتي.